الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.سورة الطور: .تفسير الآيات (1- 21): {والطور} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين {وكتاب مُّسْطُورٍ} هو القرآن ونُكِّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب أو اللوح المحفوظ أو التوراة {فِى رَقّ} هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه {مَّنْشُورٍ} مفتوح لا ختم عليه أو لائح {والبيت المعمور} أي الضراح وهو بيت في السماء حيال الكعبة وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة. رُوي أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ويخرجون ثم لا يعودون إليه أبداً. وقيل: الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار {والسقف المرفوع} أي السماء أو العرش {والبحر المسجور} المملوء أو الموقد، والواو الأولى للقسم والبواقي للعطف، وجواب القسم {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ} أي الذي أوعد الكفار به {لَوَاقِعٌ} لنازل. قال جبير بن مطعم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب {مَالَهُ مِن دَافِعٍ} لا يمنعه مانع والجملة صفة ل (واقع) أي واقع غير مدفوع. والعامل في {يَوْمٍ} {لَوَاقِعٌ} أي يقع في ذلك اليوم، أو اذكر {يَوْمَ تَمُورُ} تدور كالرحى مضطربة {السماء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} في الهواء كالسحاب لأنها تصير هباء منثوراً {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الذين هُمْ في خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب ومنه قوله {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين} [المدثر: 45] ويبدل {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} من {يَوْمَ تَمُورُ} والدع: الدفع العنيف وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم فيقال لهم {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هذا} {هذا} مبتدأ و{سِحْرٌ} خبره يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضاً سحر ودخلت الفاء لهذا المعنى {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} كما كنتم لا تبصرون في الدنيا يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر وهذا تقريع وتهكم. {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ} خبر {سَوَآء} محذوف أي سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه بقوله {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا مزية له على الجزع. {إِنَّ المتقين في جنات} في أية جنات {وَنَعِيمٍ} أي وأي نعيم بمعنى الكمال في الصفة أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة {فاكهين} حال من الضمير في الظرف والظرف خبر أي متلذذين {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} وعطف قوله {ووقاهم رَبُّهُمْ} على {فِي جنات} أي إن المتقين استقروا في جنات. .. ووقاهم ربهم، أو على {آتاهم ربهم} على أن تجعل (ما) مصدرية والمعنى فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم {عَذَابَ الجحيم} أو الواو للحال و(قد) بعدها مضمرة يقال لهم {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أكلاً وشرباً هنيئاً أو طعاماً وشراباً هنيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {كُلُواْ واشربوا} {على سُرُرٍ} جمع سرير {مَصْفُوفَةٌ} موصول بعضها ببعض {وزوجناهم} وقرناهم {بِحُورٍ} جمع حوراء {عِينٌ} عظام الأعين حسانها {والذين ءامَنُواْ} مبتدأ و{أَلْحَقْنَا بِهِمْ} خبره {واتبعتهم} {وأتبعناهم} أبو عمرو {ذُرّيَّتُهُم} أولادهم {بإيمان} حال من الفاعل {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أي نلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء. وقيل: إن الذرية وإن لم يبلغون مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً وإنما تلقنوا منهم تقليداً فهم يلحقون بالآباء. {ذُرّيَّتُهُم} {ذرياتهم} مدني {ذرياتهم} {ذرياتهم} أبو عمرو {ذرياتهم} {ذرياتهم} شامي {وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَئ} وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء. {ألتناهم} مكي ألت يألِت ألتِ يألَت لغتان من الأولى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به. .تفسير الآيات (22- 49): {وأمددناهم} وزدناهم في وقت بعد وقت {بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} وإن لم يقترحوا {يتنازعون فِيهَا كَأْساً} خمراً أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} في شربها {وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا يجري بينهم ما يلغي يعني لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن. {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} مكي وبصري. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} مملوكون لهم مخصوصون بهم {كَأَنَّهُمْ} من بياضهم وصفائهم {لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} في الصدف لأنه رطباً أحسن وأصفى أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة، في الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك» {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله {قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي في الدنيا {فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أرقاء القلوب من خشية الله أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا} بالمغفرة والرحمة {ووقانا عَذَابَ السموم} هي الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ} من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه يعنون في الدنيا {نَدْعُوهُ} نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية {إِنَّهُ هُوَ البر} المحسن {الرّحيم} العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. {أَنَّهُ} بالفتح: مدني وعلي أي بأنه أو لأنه {فَذَكِّرْ} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبَّكَ} برحمة ربك وإنعامه عليه بالنبوة ورجاحة العقل {بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} كما زعموا وهو في موضع الحال والتقدير لست كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. {أَمْ يَقُولُونَ} هو {شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} حوادث الدهر أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة. و{أم} في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم} عقولهم {بهذا} التناقض في القول وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} اختلقه محمد من تلقاء نفسه {بَلِ} رد عليهم أي ليس الأمر كما زعموا {لاَ يُؤْمِنُونَ} فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه وما محمد إلا واحد من العرب {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ} مختلق {مّثْلِهِ} مثل القرآن {إِن كَانُواْ صادقين} في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء {أم خُلِقُواْ} أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم {مِنْ غَيْرِ شَئ} من غير مقدر {أَمْ هُمُ الخالقون} أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون {أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض} فلا يعبدون خالقهما {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ} من النبوة والرزق وغيرهما فيخصوا من شاءوا بما شاءوا {أَمْ هُمُ المصيطرون} الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم. وبالسين: مكي وشامي. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوب يرتقون به إلى السماء {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون. قال الزجاج: يستمعون فيه أي عليه {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ} بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} ثم سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً} على التبليغ والإنذار {فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوح المحفوظ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذب {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين {فالذين كَفَرُواْ} إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله تعالى: {هُمُ المكيدون} هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر، أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} يمنعهم من عذاب الله {سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب} والكسف القطعة وهو جواب قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب {مَّرْكُومٌ} قدركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. {فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} بضم الياء: عاصم وشامي. الباقون بفتح الياء، يقال: صعقه فصعق وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق {يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وإن لهؤلاء الظلمة {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} دون يوم القيامة وهو القتل ببدر والقحط سبع سنين وعذاب القبر {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك. ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال: {واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ألا ترى إلى قوله {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} [طه: 39] {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ} للصلاة وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك، أو من أي مكان قمت أو من منامك {وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ وإدبار النجوم} وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل: التسبيح الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل صلاة العشاءين، وإدبار النجوم صلاة الفجر، وبالله التوفيق. .سورة النجم: .تفسير الآيات (1- 22): {والنجم} أقسم بالثريا أو بجنس النجوم {إِذَا هوى} إذا غرب أو انتثر يوم القيامة وجواب القسم {مَا ضَلَّ} عن قصد الحق {صاحبكم} أي محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب لقريش {وَمَا غوى} في اتباع الباطل. وقيل: الضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقاً عن الهوى. {علَّمَهُِ} علم محمداً عليه السلام {شَدِيدُ القوى} ملك شديد قواه والإضافة غير حقيقية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهو جبريل عليه السلام عند الجمهور، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين {ذُو مِرَّةٍ} ذو منظر حسن عن ابن عباس {فاستوى} فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق. وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء عليهم السلام في صورته الحقيقية سوى محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء. {وَهُوَ} أي جبريل عليه السلام {بالأفق الأعلى} مطلع الشمس {ثُمَّ دَنَا} جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فتدلى} فزاد في القرب، والتدلي هو النزول بقرب الشيء {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} مقدار قوسين عربيتين. وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع ومنه: (لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين)، وفي الحديث: «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد السوط وتقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات {أَوْ أدنى} أي على تقديركم كقوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وهم يقولون هذا قدر رمحين أو أنقص. وقيل: بل أدنى {فأوحى} جبريل عليه السلام {إلى عَبْدِهِ} إلى عبد الله وإن لم يجر لاسمه ذكر لأنه لا يلتبس كقوله {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} [فاطر: 45] {مَا أوحى} تفخيم للوحي الذي أوحي إليه. قيل: أوحي إليه إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك {مَا كَذَبَ الفؤاد} فؤاد محمد {مَا رأى} ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق. وقيل: المرئي هو الله سبحانه، رآه بعين رأسه وقيل بقلبه {أفتمارونه} أفتجادلونه من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، {أفتمارونه} حمزة وعلي وخلف ويعقوب، أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة قال: {على مَا يرى} فعدي ب (على) كما تقول غلبته على كذا. وقيل: أفتمرونه أفتجحدونه يقال: مريته حقه إذا جحدته وتعديته ب {على} لا تصح إلا على مذهب التضمين. {وَلَقَدْ رَءاهُ} رأى محمد جبريل عليهما السلام {نَزْلَةً أخرى} مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش. والمنتهى بمعنى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها، وقيل: لم يجاوزها أحد وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي الجنة التي يصير إليها المتقون. وقيل: تأوي إليها أرواح الشهداء {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} أي رآه إذ يغشى السدرة ما يغشى، وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف. وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها. وقيل: يغشاها فراش من ذهب {مَا زَاغَ البصر} بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها {وَمَا طغى} وما جاوز ما أمر برؤيته. {لَقَدْ رأى} والله لقد رأى {مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} الآيات التي هي كبراها وعظماها يعني حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت. {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة} أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عز وجل هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة؟ اللات والعزى ومناة أصنام لهم وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف. وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، والعزى كانت لغطفان وهي ثمرة وأصلها تأنيث الأعز وقطعها خالد بن الوليد، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وقيل: لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق {ومناءة} مكي مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها {الأخرى} هي صفة ذم أي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله {وَقَالَتِ أُخْرَاهُمْ لأولاهم} [الأعراف: 38] أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله مع وأدهم البنات وكراهتهم لهن فقيل لهم {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي جعلكم لله البنات ولكم البنين قسمة ضيزى أي جائزة من ضازه يضيزه إذا ضامه. و{ضيزى} فعلى إذ لا فعلى في النعوت فكسرت الضاد للياء كما قيل (بيض) وهو بوض مثل حمر وسود، {ضئزى} بالهمز: مكي من ضأزه مثل ضازه.
|